فصل: المقصد الثالث في ذكر أعيان المملكة وأرباب المناصب الذين بهم انتظام المملكة وقيام الملك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد الثالث في ذكر أعيان المملكة وأرباب المناصب الذين بهم انتظام المملكة وقيام الملك:

وهم أربعة أضرب:
الضرب الأول أرباب السيوف:
والنظر فيهم وجهين:
الوجه الأول مراتبهم على سبيل الإجمال:
وهي على نوعين:
النوع الأول: الأمراء:
وهم أربع طبقات:
الطبقة الأولى: أمراء المئين:
مقدمو الألوف وعدة كل منهم مائة فارس قال في مسالك الأبصار: وربما زاد الواحد منهم العشرة والعشرين؛ وله التقدمة على ألف فارس ممن دونه من الأمراء، وهذه الطبقة هي أعلى مراتب الأمراء على تقارب درجاتهم، ومنهم يكون أكابر الوظائف والنواب. ثم الذي كان استقر عليه قاعدة المملكة في الروك الناصري محمد بن قلاوون، وما بعده إلى آخر الدولة الأشرفية شعبان بن حسين، أن يكون بالديار المصرية أربعة وعشرون مقدماً، ولما استجد في الدولة الظاهرية الديوان المفرد لخاص السلطان وأفرد له عدة كثيرة من المماليك السلطانية والمستخدمين، نقصت عدة المقدمين عما كانت عليه، وصارت دائرةً بين الثمانية عشر والعشرين مقدماً بما في ذلك من نائب الإسكندرية ونائبي الوجهين: القبلي والبحري.
الطبقة الثانية أمراء الطبلخاناه وعدة كل منهم في الغالب أربعون فارساً.
قال في مسالك الأبصار: وقد يزيد بعضهم على ذلك إلى سبعين فارساً، بل ذكر في التعريف في أواخر الكاتبات أنه يكون للواحد منهم ثمانون فارساً. قال في مسالك الأبصار: ولا تكون الطبلخاناه لأقل من أربعين، وهذه الطبقة لا ضابط لعدة أمرائها بل تتفاوت بالزيادة والنقص لأنه مهما فرقت إمرة الطبلخاناه فجعلت إمرتي عشرين أو أربع عشرات، أو ضم بعض العشرات ونحوها إلى بعض وجعلت طبلخاناه، ومن أمراء الطبلخاناه تكون الرتبة الثانية من أرباب الوظائف والكشاف بالأعمال، وأكابر الولاة.
الطبقة الثالثة أمراء العشرات، وعدة كل منهم عشرة فوارس. قال في مسالك الأبصار: وربما كان فيهم من له عشرون فارساً ولا يعد إلا في أمراء العشرات، وهذه الطبقة أيضاً لا ضابط لعدد أمرائها بل تزيد وتنقص كما تقدم في الكلام على أمراء الطبلخاناه، ومن هذه الطبقة يكون صغار الولاة ونحوهم من أرباب الوظائف.
الطبقة الرابعة أمراء الخمسات. وهم أقل من القليل خصوصاً بالديار المصرية، وأكثر ما يقع ذلك في أولاد الأمراء المندرجين بالوفاة رعايةً لسلفهم، وهم في الحقيقة كأكابر الأجناد.
النوع الثاني: الأجناد:
وهم على طبقتين:
الطبقة الأولى: المماليك السلطانية:
وهم أعظم الأجناد شأناً، وأرفعهم قدراً وأشدهم إلى السلطان قرباً، وأوفرهم إقطاعاً؛ ومنهم تؤمر الأمراء رتبة بعد رتبة، وهم في العدة بحسب ما يؤثره السلطان من الكثرة والقلة، وقد كان لهم في زمن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ثم في أيام السلطان الملك الظاهر برقوق العدد الجم والمدد الوافر لطول مدة ملكهما واعتنائهما بجلب المماليك ومشتراها.
الطبقة الثانية أجناد الحلقة. وهم عدد جم وخلق كثير، وربما دخل فيهم من ليس بصفة الجند من المتعممين وغيرهم، بواسطة النزول عن الإقطاعات، وقد جرت عادة ديوان الجيش عدم الجمع على الجند كي لا يحاط بعدته ويطلع إليه. قال في مسالك الأبصار: ولكل أربعين نفساً منهم مقدم منهم، ليس له عليهم حكم إلا إذا خرج العسكر كانت مواقفهم معه، وترتيبهم في موقفهم إليه. ومن الأجناد طائفة ثالثة يقال لهم البحرية يبيتون بالقلعة وحول دهاليز السلطان في السفر كالحراس، وأول من رتبهم وسماهم بهذا الاسم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب.
الوجه الثاني في ذكر أرباب الوظائف من أرباب السيوف:
المتقدم ذكرهم وهم على نوعين:
النوع الأول من هو بحضرة السلطان:
وهي خمسة وعشرون وظيفة:
الأولى النيابة:
ويعبر عن صاحبها بالنائب الكافل، وكافل الممالك الإسلامية. قال في التعريف: وهو يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان ويعلم في التقاليد والتواقيع والمناشير، وغير ذلك مما هو من هذا النوع على كل ما يعلم عليه السلطان؛ وسائر النواب لا يعلم الرجل منهم إلا على ما يتعلق بخاصة نيابته. قال: وهذه رتبة لا يخفى ما فيها من التمييز. قال في مسالك الأبصار: وجميع نواب الممالك تكاتبه فيما تكاتب فيه السلطان ويراجعونه فيه كما يراجع السلطان، ويستخدم الجند من غير مشاورة السلطان، ويعين أرباب الوظائف الجليلة كالوزارة وكتابة السر، وقل أن لا يجاب فيمن يعينه؛ وهو سلطان مختصر بل هو السلطان الثاني. وعادته أن يركب بالعسكر في أيام المواكب وينزل الجميع في خدمته. فإذا مثل في حضرة السلطان، وقف في ركن الإيوان. فإذا انقضت الخدمة، خرج إلى دار النيابة بالقلعة والأمراء معه ويجلس جلوساً عاماً للناس، ويحضره أرباب الوظائف، ويقف قدامه الحجاب، وتقرأ عليه القصص، ثم يمد السماط للأمراء كما يمد لهم السلطان فيأكلون وينصرفون. وإذا كانت النيابة قائمة على هذه الصورة، لم يكن السلطان يتصدى لقراءة القصص، وسماع الشكاوى بنفسه، ويأمر في ذلك بما يرى من كتابة مثال ونحوه، ولكنه لا يستبد بما يكتب من الأبواب السلطانية بنفسه بل يكتب بإشارته وينبه على ذلك، وتشمله العلامة الشريفة بعد ذلك.
أما ديوان الجيش فإنه لا يكون له خدمةٌ إلا عنده ولا اجتماعٌ إلا به، ولا اجتماع لهم بالسلطان في أمر من الأمور، وما كان من الأمور المعضلة التي لا بد من إحاطة علم السلطان بها فإنه يعلمه بها تارة بنفسه وتارة بمن يرسله إليه. هذا آخر كلامه في المسالك غير أن هذا النائب تارة ينصب وتارة يعطل جيد المملكة منه، وعلى هذا كان الحال في الأيام الناصرية ابن قلاوون تارة وتارة وكذا الحال في زماننا. وإذا كان منتصباً، اختص بإخراج بعض الإقطاعات دون بعض، ويكون صاحب ديوان الجيش هو الملازم له وناظر الجيش ملازم السلطان.
قال في التعريف: أما نائب الغيبة: وهو الذي يترك إذا غاب السلطان والنائب الكافل، وليس إلا لإخماد الثوائر وخلاص الحقوق، فحكمه في رسم الكتابة إليه رسم مثله في الأمراء.
الثانية الأتابكية. ويعبر عن صاحبها بأتابك العساكر. قال السلطان عماد الدين في تاريخه: وأصله أطابك ومعناه الوليد الأمير، وأول من لقب بذلك نظام الدولة وزير ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي حين فوض إليه ملكشاه تدبير المملكة سنة خمس وستين وأربعمائة، ولقبه بألقاب منها هذا؛ وقيل أطابك معناه أمير أب، والمراد أبو الأمراء، وهو أكبر الأمراء المقدمين بعد النائب الكافل، وليس له وظيفة ترجع إلى حكم وأمر ونهي، وغايته رفعة المحل وعلو المقام.
الثالثة وظيفة رأس نوبة. وموضوعها الحكم على المماليك السلطانية والأخذ على أيديهم، وقد جرت العادة أن يكونوا أربعة أمراء: واحدٌ مقدم ألف وثلاثةٌ طبلخاناه.
الرابعة إمرة مجلس. وموضوعها وهو يتحدث على الأطباء والكحالين، ومن شاكلهم، ولا يكون إلا واحداً.
الخامسة إمرة سلاح. وأصل موضوعها حمل السلاح للسلطان في المجامع الجامعة، وصاحبها هو المقدم على السلاح دارية من المماليك السلطانية والمتحدث في السلاح خاناه السلطانية، وما يستعمل لها ويقدم إليها، ولا يكون إلا واحداً من الأمراء المقدمين.
السادسة إمرة أخورية. وموضوعها التحدث على إصطبل السلطان وخيوله، وعادتها مقدم ألف يكون متحدثاً فيها حديثاً عاماً، وهو الذي يكون ساكناً بإصطبل السلطان، ودونه ثلاثة من أمراء الطبلخاناه. أما أمراء العشرات والجند، فغير محصورين.
السابع الدوادارية. قال في مسالك الأبصار: وموضوعها تبليغ الرسائل عن السلطان وإبلاغ عامة الأمور، وتقديم القصص إليه، والمشاورة على من يحضر إلى الباب الشريف وتقديم البريد، هو وأمير جاندار وكاتب السر، ويأخذ الخط على عامة المناشير والتواقيع والكتب. وإذا خرج عن السلطان بكتابة شيء بمرسوم، حمل رسالته وعينت فيما يكتب، وسيأتي بيان ذلك فيما يكتب بالرسائل في الكلام على قوانين ديوان الإنشاء إن شاء الله تعالى.
وفي هذه الوظيفة عدةٌ من الأمراء والجند، وقد كانت في أيام الناصر محمد بن قلاوون وما تلاها ليس فيها أميرٌ مقدم ألف، ثم آل الأمر إلى أن صار منهم مقدم ألف، ونائبه طبلخاناه. وأول من استقر في وظيفة الدوادارية من الأمراء الألوف طغيتمر النجمي في الدولة الناصرية حسن، ثم صار غالب من يليها ألوف، وربما كان طبلخاناه أحياناً.
الثامنة الحجوبية. قال في مسالك الأبصار: وموضوعها أن صاحبها ينصف بين الأمراء والجند تارة بنفسه وتارة بمراجعة النائب إن كان، وإليه تقديم من يعرض ومن يرد، وعرض الجند وما ناسب ذلك؛ والتي جرت به العادة خمسة حجاب، اثنان من مقدمي الألوف: وهما حاجب الحجاب هو المشار إليه من الباب الشريف، والقائم مقام النائب في كثير من الأمور. واعلم أن هذا الاسم أول ما حدث في الدولة الأموية في خلافة عبد الملك بن مروان، وكان موضوعها إذ ذاك حجب السلطان عن العامة، ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته، ثم تبعهم بنو العباس على ذلك. وقد ذكر السلطان عماد الدين صاحب حماة: أنه كان للمقتدر سبعمائة حاجب. هذا وكانت الخلافة قد أخذت في الضعف، وهو خلاف موضوعها الآن، وفيها بمماليك المغرب معانٍ أخرى يأتي ذكرها عند الكلام على ممالكها إن شاء الله تعالى.
التاسعة إمرة جاندار. وموضوعها أن صاحبها يستأذن على دخول الأمراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان.. قال في مسالك الأبصار: ويقدم البريد مع الدوادار وكاتب السر. قال: وصاحبها كالمتسلم للباب، وله به البرددارية وطوائف الركابية والخازندارية. وإذا أراد السلطان تعزير أحد أو قتله كان ذلك على يد صاحب هذه الوظيفة؛ وهو المتسلم للزردخاناه التي هي أرفع قدراً في الاعتقالات، ولا تطول مدة المعتقل بها، بل إما يعجل بتخلية سبيله أو إتلاف نفسه؛ وصاحب هذه الوظيفة هو الذي يطوف بالزفة حول السلطان في سفره، وقد جرت العادة أن يكون فيها أميران: مقدم ألف، وطبلخاناه، والمشار إليه هو المقدم.
العاشرة الاستادرية. قال في مسالك الأبصار: وموضوعها التحدث في أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان وهو الذي يمشي بطلب السلطان، ويحكم في غلمانه وباب داره، وإليه أمر الجاشنكيرية، وإن كان كبيرهم نظيره في الإمرة من ذوي المئين، وله حديثٌ مطلق وتصرف تام في استدعاء ما يحتاجه كل من في بيت السلطان من النفقات والكساوي وما يجري مجرى ذلك للمماليك وغيرهم. وقد جرت العادة أن يكونوا أربعة: واحد مقدم ألف وثلاثة طبلخاناه، وربما نقصوا عن ذلك.
الحادية عشرة الجاشنكرية. وموضوعها التحدث في أمر السماط مع الأستادار على ما تقدمت الإشارة إليه، ويقف على السماط مع أستادار الصحبة، وأكبرهم يكون من الأمراء المقدمين.
الثانية عشرة الخازندارية. وموضوعها التحدث في خزائن الأموال السلطانية من نقد وقماش وغير ذلك، وكانت عادتها طبلخاناه، ثم استقرت تقدمة ألف، ويطالبه في حساب ذلك ناظر الخاص الآتي ذكره.
الثالثة عشرة شد الشراب خاناه. وموضوعها التحدث في أمر الشراب خاناه السلطانية وما عمل إليها من السكر والمشروب والفواكه وغير ذلك، وتارة يكون مقدماً، وتارة يكون طبلخاناه.
الرابعة عشرة أستادارية الصحبة. وموضوعها التحدث على المطبخ السلطاني والإشراف على الطعام والمشي أمامه والوقوف على السماط؛ والعادة أن يكون صاحبها أمير عشرة.
الخامسة عشرة تقدمة المماليك.. وموضوعها التحدث على المماليك السلطانية والحكم فيهم، ولا يكون صاحبها إلا من الخدام، والعادة أن تكون إمرة طبلخاناه، وله نائب أمير عشرة.
السادسة عشرة زمأمية الدور السلطانية. وصاحبها من أكبر الخدام، وهو المعبر عنه بالزمام، وعادته أن يكون أمير طبلخاناه.
السابعة عشرة نقابة الجيوش. قال في مسالك الأبصار: وهي موضوعة لتحلية الجند في عرضهم، ومعه يمشي النقباء. وإذا طلب السلطان أو النائب أو الحاجب أميراً أو غيره، أحضره. قال: وهو كأحد الحجاب الصغار، وله التطلب بالحراسة في الموكب والسفر.
الثامنة عشرة المهمندارية. وموضوعها تلقي الرسل الواردين وأمراء العربان وغيرهم ممن يرد من أهل المملكة وغيرها.
التاسعة عشرة شد الدواوين. وموضوعها أن يكون صاحبها رفيقاً للوزير متحدثاً في استخلاص الأموال، وما في معنى ذلك؛ وعادتها إمرة عشرة.
العشرون إمرة طبر. وموضوعها أن يكون صاحبها حاملاً الطبر في المواكب، ويحكم على من دونه من الطبردارية، وعادتها إمرة عشرة أيضاً.
الحادية والعشرون إمرة علم. وموضوعها أن يكون صاحبها متحدثاً على الطبلخاناه السلطانية وأهلها، متصرفاً في أمرها؛ وعادتها إمرة عشرة.
الثانية والعشرون إمرة شكار. وموضوعها أن يكون صاحبها متحدثاً في الجوارح السلطانية من الطيور وغيرها والصيود السلطانية وأحواش الطيور وغيرها؛ وهي إمرة عشرة.
الثالثة والعشرون حراسة الطير. وموضوعها أن يكون صاحبها متحدثاً على حراسة الطيور من الكراكي التي هي بصدد أن يصيدها السلطان في الأماكن التي تنزل بها الطيور من المزارع وغيرهما؛ وهي إمرة عشرة.
الرابعة والعشرون شد العمائر. وموضوعها أن يكون صاحبها متكلماً في العمائر السلطانية مما يختار السلطان إحداثه أو تجديده من القصور والمنازل والأسوار؛ وهي إمرة عشرة.
الخامسة والعشرون الولاية. والولاة بالحاضرة على صنفين:
لصنف الأول ولاة الشرطة المعروفون في الديار المصرية بولاة الحرب؛ وهم ثلاثة، بالقاهرة، والفسطاط المعروف بمصر، والقرافة فأما والي القاهرة، فيحكم في القاهرة وضواحيها، وهو أكبر الثلاثة وأعلاهم رتبةً؛ وعادته إمرة طبلخاناه.
وأما والي الفسطاط، فيحكم في خاصة مصر على نظير ما يحكم والي القاهرة في بلده؛ وعادته إمرة عشرة.
وأما والي القرافة، فيحكم في القرافة التي هي تربة هاتين المدينتين بمراجعة والي مصر؛ وعادته إمرة عشرة. وقد أضيفت الآن القرافة إلى مصر، وصارت ولاية واحدة وجعلت إمرة طبلخاناه ولكنها لا تبلغ شأو القاهرة.
الصنف الثاني ولاة القلعة، وهم اثنان أحدهما والي القلعة، وهو أمير طبلخاناه، وله التحدث على باب القلعة الكبير الذي منه طلوع عامة العسكر ونزولهم في الفتح والغلق ونحو ذلك.
الثاني والي باب القلة، وهو أمير عشرة، وله التحدث على الباب المذكور وأهله كما لوالي القلعة التحدث على الباب الكبير المتقدم ذكره.
النوع الثاني: ما هو خارج عن الحضرة السلطانية:
وهم على ثلاثة طبقات:
الطبقة الأولى: نواب السلطنة:
والذي بمصر الآن ثلاث نيابات، جميعها مستحدثة عن قرب.
الأولى نيابة الإسكندرية. وهي نيابة جليلة تضاهي نيابة طرابلس وحماة وصفد من المملكة الشامية الآتي ذكرها، وبها كرسي سلطنة ونمجاه سلطانية توضع على الكرسي، ونائبها من الأمراء المقدمين يركب في المواكب بالشبابة السلطانية، ومعه أجناد الحلقة المرتبون بها، ويخرج في موكبه إلى ظاهر الإسكندرية خارج باب البحر، ويجتمع إليه الأمراء المسيرون بها هناك، ثم يعود وهم معه إلى دار النيابة، ويمد السماط السلطاني، ويأكل عليه الأمراء والأجناد، ويحضره القضاة، وتقرأ القصص على عادة النيابات ثم ينصرفون.
وكان ابتداء ترتيب هذه النيابة في سنة سبع وستين وسبعمائة في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين حين طرق العدو المخذول من الفرنج الإسكندرية وفتكوا بأهلها وقتلوا منهم الخلق العظيم ونهبوا الأموال الجمة، وكانت قبل ذلك ولاية تعد في جملة الولايات، وكان لواليها الرتبة الجليلة والمكانة العلية من أكابر أمراء الطبلخاناه.
الثانية نيابة الوجه القبلي. وهي مما استحدث في الدولة الظاهرية برقوق، وهو في رتبة نيابة الوجه البحري بل أعظم خطراً منه، ومقر نيابته مدينة أسيوط المتقدم ذكرها، وحكمه على جميع بلاد الوجه القبلي بأسرها، وهي في الترتيب على ما تقدم من نيابة الوجه البحري، وكانت قبل ذلك كاشفاً يطلق عليه والي الولاة كما كان في الوجه البحري.
الثالثة نيابة الوجه البحري. وهي مما استحدث في الدولة الظاهرية أيضاً، ونائبها من الأمراء المقدمين، وهو في رتبة مقدم العسكر بغزة الآتي ذكرها، ومقر نائبها دمنهور مدينة البحيرة المتقدم ذكرها؛ وليست على قاعدة النيابات بل هي في الحقيقة ولاية حرب كبيرة، وقد كان القائم بها قبل ذلك كاشفاً يطلق عليه والي الولاة ولم يكن له مقرة خاصة.
الطبقة الثانية: الكشاف:
قد تقدم أنه قبل النيابة بالوجهين القبلي والبحري كان بهما كاشفان، ولما استقرت النيابة بهما جعل للوجه البحري كاشف من أمراء الطبلخاناه على العادة المتقدمة، يتحدث في بلاده ما عدا عمل البحيرة لقربه من نائب الوجه البحري، وجعل كاشف آخر من رتبته لعمل الفيوم وعطل من الوالي، وأضيف إليه عمل البهنسى أيضاً؛ وسائر الوجه القبلي أمره راجع إلى نائبه المتقدم ذكره.
الطبقة الثالثة: الولاة بالوجهين القبلي والبحري:
وقد تقدم ذكر أعمالهما. ومراتب الولاة بهما لا تخرج عن مرتبتين.
المرتبة الأولىأمراء الطبلخاناه؛ وهي سبع ولايات بالوجهين: القبلي والبحري فأما الوجه القبلي ففيه أربع ولاة من هذه الرتبة.
الأول والي البهنسى، وهي أقرب ولاة الطبلخاناه بهذا الوجه الآن إلى القاهرة.
الثاني والي الأشمونين.
الثالث والي قوص وإخميم، وهو أعظم ولاة الوجه القبلي حتى إنه يركب في المواكب بالشبابة السلطانية أسوة النواب بالممالك.
الرابع والي أسوان، وهو محدث في الدولة الظاهرية برقوق، وكانت قبل ذلك مضافة إلى والي قوص، وكانت ولاية الفيوم طبلخاناه استقرت كشفاً على ما تقدم.
أما أسيوط، فلم يكن بها ولاية لكونها كانت مستقر والي الولاة بالوجه القبلي، ثم صارت مستقر النائب به، وسيأتي بيان ما كان ولاية طبلخاناه، ثم نقل إلى العشرات.
وأما الوجه البحري ففيه أربعة ولاة من هذه الرتبة: الأول والي الشرقية وهو والي بلبيس.
الثاني والي منوف.
الثالث والي الغربية، وهو والي المحلة، ورتبته في الوجه البحري في رفعة القدر تضاهي رتبة والي قوص في الوجه القبلي.
الرابع والي البحيرة، وهو والي دمنهور. وقد تقدم أن الإسكندرية قبل أن تستقر نيابةً كان بها والٍ من أمراء الطبلخاناه.
المرتبة الثانيةمن الولاة أمراء العشرات، وهي سبعة ولاة بالوجهين فأما الوجه القبلي ففيه ثلاثة ولاة: الأول والي الجيزة، وقد كان قبل ذلك طبلخاناه، ثم نقل إلى العشرات.
الثاني والي إطفيح، ولم يزل عشرة.
الثالث والي منفلوط، وهو وإن كان الآن أمير عشرين فقد تقدم أن من دون الأربعين معدود في العشرات. على أنها كانت قبل ذلك ولاية طبلخاناه وحطت عن ذلك.
وقد كان بعيذاب في الأيام الناصرية والٍ أمير عشرة يولى من قبل السلطان ويراجع والي قوص في الأمور المهمة.
وأما الوجه البحري، ففيه أربع ولاة من هذه الرتبة.
الأول والي قليوب، ولم تزل ولايتها إمرة عشرة.
الثاني والي أشموم، ولم تزل عشرة أيضاً.
الثالث والي دمياط.
الرابع والي قطيا، وكان قبل ذلك طبلخاناه.
الضرب الثاني من أعيان المملكة وأرباب المناصب حملة الأقلام:
وهم على نوعين:
النوع الأول: أرباب الوظائف الديوانية:
وهي كثيرة للغاية لا يسع استيفاؤها والمعتبر منها مما يجب الاقتصار عليه تسع وظائف الأولى الوزارة. وهي أجل الوظائف وأرفعها رتبةً في الحقيقة لو لم تخرج عن موضوعها ويعدل بها عن قاعدتها. قال في مسالك الأبصار: وربها ثاني السلطان لو أنصف وعرف حقه، لكنها لما حدثت عليها النيابة وأخرت وقعد بها مكانها حتى صار المتحدث فيها كناظر المال لا يتعدى الحديث فيه ولا يتسع له في التصرف مجال ولا تمتد يده في الولاية والعزل لتطلع السلطان إلى الإحاطة بجزئيات الأحوال. قال: وقد صار يليها أناس من أرباب السيوف والأقلام بأرزاق على قدر الإنفاق، وقطيعتها أشهر من أن تذكر.
قال: وكان هذا السلطان يعني الناصر محمد بن قلاوون رحمه الله قد أبطلها، وصار ما كان يتحدث فيه الوزير منقسماً إلى ثلاثة: ناظر المال، ومعه شاد الدواوين لتحصيل المال وصرف النفقات، وناظر الخاص لتدبير الأمور العامة وتعيين المباشرين، وكاتب السر للتوقيع في دار العدل مما كان يوقع فيه الوزير مشاورةً واستقلالاً. قلت: ولما عادت الوزارة بعد ذلك، صارت إلى ما كانت عليه من الاقتصار على التحدث في المال، وبقيت كتابة السر على ما صارت إليه من التوقيع على القصص بدار العدل وغيرها. ثم إن كان الوزير صاحب قلم، فهو المستقل بمباشرة الوظيفة نظراً وتنفيذاً ومحاسبةً على الأموال، وإن كان صاحب سيفٍ، كان مقتصراً على النظر والتنفيذ، وكان أمر الحساب في الأموال راجعاً إلى ناظر الدولة معه.
ثم لوظيفة الوزارة أتباع كثيرة أجلها نظر الدولة واستيفاء الصحبة واستيفاء الدولة.
فأما نظر الدولة: وهو المعبر عنه في مصطلح الدواوين المعمورة بالصحبة الشريفة فموضوعها أن صاحبها يتحدث مع الوزير في كل ما يتحدث فيه ويشاركه في الكتابة في كل ما يكتب فيه، ويوقع في كل ما يوقع فيه الوزير تبعاً له. وإن كان الوزير صاحب سيف، كان ناظر الدولة هو المتحدث في أمر الحسبانات، وما يتعلق بها الوزير مقتصر على النظر والتنفيذ.
وأما استيفاء الصحبة فهي وظيفة جليلة رفيعة القدر. قال في مسالك الأبصار: وصاحبها يتحدث في جميع المملكة مصراً وشاماً، ويكتب مراسيم يعلم عليها السلطان، تارة تكون بما يعمل في البلاد، وتارة بإطلاقات، وتارة باستخدامات كبار في صغار الأعمال، وما يجري مجراه.
قال: وهذا الديوان هو أرفع دواوين الأموال، وفيه تثبت التواقيع والمراسيم السلطانية، وكل من دواوين الأموال فهو فرع هذا الديوان وإليه يرجع حسابه وتتناهى أسبابه.
وأما استيفاء الدولة فهي وظيفة رئيسية، وعلى متوليها مدار أمور الدولة في الضبط والتحرير ومعرفة أصول الأموال ووجوه مصارفها، ويكون فيها مستوفيان فأكثر.
الوظيفة الثانية كتابة السر. قال في مسالك الأبصار: وموضوعها قراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها وأخذ خط السلطان عليها وتسفيرها، وتصريف المراسيم وروداً وصدوراً، والجلوس لقراءة القصص بدار العدل والتوقيع عليها. وقد تقدم في الكلام على الوزارة أنه صار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة مع مراجعة السلطان فيما يحتاج إلى المراجعة فيه، في أمور أخرى من التحدث في أمر البريد وتصريف البريدية والقصاد، ومشاركة الدوادار في أكثر الأمور السلطانية مما تقدم ذكره مفصلاً. وبديوانه كتاب الدست: وهم الذين يجلسون معه في دار العدل ويقرأون القصص على السلطان ويوقعون عليها بأمر السلطان، وكتاب الدرج: وهم الذين يكتبون الولايات والمكاتبات ونحوها مما يكتب عن الأبواب الشريفة، وربما شاركهم كتاب الدست في ذلك.
الوظيفة الثالثة نظر الخاص. وهي وظيفة محدثة، أحدثها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون رحمه الله حين أبطل الوزارة على ما تقدم ذكره، وأصل موضوعها التحدث فيما هو خاص بمال السلطان. قال في مسالك الأبصار: وقد صار كالوزير لقربه من السلطان وتصرفه، وصار إليه تدبير جملة الأمور وتعيين المباشرين يعني في زمن تعطيل الوزارة. قال: وصاحب هذه الوظيفة لا يقدر على الاستقلال بأمر إلا بمراجعة السلطان. ولناظر الخاص أتباع من كتاب ديوان الخاص كمستوفي الخاص، وناظر خزانة الخاص ونحو ذلك مما لا يسع استيعابه.
الوظيفة الرابعة نظر الجيش. وموضوعها التحدث في أمر الإقطاعات بمصر والشام والكتابة بالكشف عنها ومشاورة السلطان عليها وأخذ خطه؛ وهي وظيفة جليلة رفيعة المقدار، وديوانها أول ديوان وضع في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عمر. قال الزهري: قال سعيد بن المسيب: وذلك في سنة عشرين من الهجرة، وسيأتي الكلام على ما يتعلق بها في الكلام على كتابة المناشير في المقالة السادسة إن شاء الله تعالى. ولناظر الجيش أتباع بديوانيه يولون عن السلطان، كصاحب ديوان الجيش وكتابه وشهوده، وكذلك صاحب ديوان المماليك، وكاتب المماليك وشهود المماليك. فإن المماليك السلطانية فرع من الجيش ونظرهم راجع إلى ناظر الجيش.
الوظيفة الخامسة نظر الدواوين المعمورة والصحبة الشريفة. وهو المعبر عنه بناظر الدولة. وموضوعها التحدث في كل ما يتحدث فيه الوزير، وكل ما كتب فيه الوزير كتب فيه هو، يكتب فيه بمثل ما رسم به.
الوظيفة السادسة نظر الخزانة. قال في مسالك الأبصار: وكانت أولاً كبيرة الوضع لأنها مستودع أموال المملكة، فلما استحدثت وظيفة الخاص، صغر أمر الخزانة، وسميت بالخزانة الكبرى، وهو اسم فوق مسماه. قال: ولم يكن بها الآن إلا خلعٌ تخلع منها أو ما يحضر إليها ويصرف أولاً فأولاً، وفي الغالب يكون ناظرها من القضاة أو من يلتحق بهم، ولناظر الخزانة أتباع يولون عن السلطان كصاحب ديوان الخزانة.
الوظيفة السابعة نظر البيوت والحاشية. وهو نظر جليل، وكل ما يتحدث فيه الأستادار له فيه مشاركة في التحدث فيه، وقد تقدم تفصيل حال وظيفة الأستادارية.
الوظيفة الثامنة نظر بيت المال. وموضوعها حمل حمول المملكة إلى بيت المال والتصرف فيه تارة قبضاً وصرفاً وتارة بالتسويغ محضراً وصرفاً. قال في مسالك الأبصار: ولا يليها إلا ذو العدالة البارزة من أهل العلم والديانة.
الوظيفة التاسعة نظر الإصطبلات السلطانية. وموضوعها مباشرة إصطبلات السلطان والتحدث في أنواع الخيول والبغال والدواب والجمال السلطانية، وعليفها وعدتها، وما لها من الاستعمالات والإطلاقات، وكل ما يبتاع لها أو يباع منها، وأرزاق المستخدمين بها ونحو ذلك.
الوظيفة العاشرة نظر دار الضيافة والسوق. وموضوعها التحدث في أمر ما يتحصل من سوق الخيل والرقيق ونحوهما، وصرف ذلك في كلفة من يرد إلى الأبواب السلطانية من رسل الملوك ونحوهم، وصرف مرتبات مقررة لأناس في كل شهر؛ والحدث فيها ولاية وعزلاً وتنفيذاً راجعٌ إلى الدوادار؛ وللوزير المشاركة معه في المتحصل في شيء مخصوص.
الوظيفة الحادية عشرة نظر خزائن السلاح. وموضوعها التحدث على كل ما يستعمل من السلاح السلطاني، وعادته أن يجمع ما يتحصل من عمل كل سنة ويجهز في يوم معين، ويحمل على رؤوس الحمالين إلى خزائن السلاح بالقلعة المحروسة، ويخلع عليه وعلى رفقته من المباشرين.
الوظيفة الثانية عشرة نظر الأملاك السلطانية. وموضوعها التحدث على الأملاك الخاصة بالسلطان من ضياع ورباع وغير ذلك.
الوظيفة الثالثة عشرة نظر البهار والكارمي. وموضوعها التحدث على واصل التجار الكارمية من اليمن من أصناف البهار وأنواع المتجر، وهي وظيفة جليلة تارة تضاف إلى الوزارة وتجعل تبعاً لها، وتارة تضاف إلى الخاص وتجعل تبعاً لها، وتارة تنفرد عنهما بحسب ما يراه السلطان.
الوظيفة الرابعة عشرة نظر المواريث الحشرية. وموضوعها التحدث على ديوان المواريث الحشرية ممن يموت ولا وارث له، أو وله وارث لا يستغرق ميراثه، مع التحدث في إطلاق جميع الموتى من المسلمين وغيرهم.
الوظيفة السادسة عشرة نظر الطواحين السلطانية بمصر بالصناعة أيضاً.
وهو مغلق عظيم فيه عشرة حجارة يخرج منها في كل يوم نحو خمسين تليساً.
الوظيفة السابعة عشرة نظر الحاصلات. وهو المعبر عنه بنظر الجهات؛ وموضوعه التحدث في أموال جهات الوزارة من متحصل ومصروف أو حمل لبيت المال وغيره.
الوظيفة الثامنة عشرة نظر المرتجعات. وموضوعها التحدث على ما يرتجع ممن يموت من الأمراء ونحو ذلك، وقد رفضت هذه الوظيفة وتعطلت ولايتها في الغالب وصار أمر المرتجع موقوفاً على مستوفي المرتجع، وهو الذي يحكم في القضايا الديوانية ويفصلها على مصطلح الديوان، وهو المعبر عنه بديوان السلطان.
الوظيفة التاسعة عشرة نظر الجيزة. وموضوعها التحدث على ما يتحصل من عمل الجيزية التي هي خاص السلطان، وهي فرع من فروع الدواوين.
الوظيفة العشرون نظر الوجه القبلي. وموضوعها التحدث على بلاد الصعيد بأسرها مما يتحصل فيها من ميراث وغيره.
الوظيفة الحادية والعشرون نظر الوجه البحري. وموضوعها كموضوع نظر الوجه القبلي المتقدم ذكره.
الوظيفة الثانية والعشرون صحابة ديوان الجيش. وموضوعها التحدث في كل ما يتحدث فيه ناظر الجيش من أمر الإقطاعات.
الوظيفة الثالثة والعشرون صحابة ديوان البيمارستان. وموضوعها التحدث في كل ما يتحدث فيه ناظر البيمارستان.
الوظيفة الرابعة والعشرون صحابة ديوان الأحباس. وصاحبها يكتب في كل ما يكتب فيه ناظر الأحباس إلا أنها بطلت.
الوظيفة الخامسة والعشرون: استيفاء الصحبة:
النوع الثاني: أرباب الوظائف الدينية:
وهم صنفان:
الصنف الأول من له بالحضرة السلطانية بدار العدل الشريف، وهو منحصر في خمس وظائف الوظيفة الأولى قضاء القضاة. وموضوعها التحدث في الأحكام الشرعية وتنفيذ قضاياها، والقيام بالأوامر الشرعية، والفصل بين الخصوم، ونصب النواب للتحدث فيما عسر عليه مباشرته بنفسه؛ وهي أرفع الوظائف الدينية وأعلاها قدراً وأجلها رتبة.
واعلم أن الأمر في الزمن الأول كان قاصراُ على قاضٍ واحد بالديار المصرية من أي مذهب كان، بل كان في الدولة الفاطمية قاضٍ واحد بالديار المصرية، وأجناد الشام، وبلاد المغرب، مضاف إليه التحدث في أمر الصلاة ودور الضرب وغير ذلك على ما ستقف عليه في تقاليد بعض قضاتهم في الكلام على تقاليد القضاة إن شاء الله تعالى، ثم استقر الحال في الأيام الظاهرية بيبرس في سنة ثلاث وستين وستمائة على أربعة قضاة من مذاهب الأئمة الأربعة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وكان السبب في ذلك فيما ذكره صاحب نهاية الأرب أن قضاء القضاة بالديار المصرية كان يومئذٍ بيد القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز بمفرده؛ وكان الأمير جمال الدين ايدغدي أحد أمراء السلطان الظاهر المتقدم ذكره يعانده في أموره، ويغض منه عند السلطان، لتثبته في الأمور وتوقفه في الأحكام. فبينما السلطان ذات يوم جالس بدار العدل إذ رفعت إليه قصة بسبب مكانٍ باعه القاضي بدر الدين السنجاري، ثم ادعى ذريته بعد وفاته أنه موقوف، فأخذ الأمير ايدغدي يغض من القضاة بحضرة السلطان، فسكت السلطان لذلك، ثم قال للقاضي تاج الدين: ما الحكم في ذلك؟ قال: إذا ثبتت الوقفية يستعاد الثمن من تركة البائع، قال: فإن عجزت التركة عن ذلك، قال يوقف على حاله، فامتعض لها السلطان وسكت، ثم جرى في المجلس ذكر أمور أخرى توقف القاضي في تمشيتها، وكان آخر الأمر أن الأمير ايدغدي حسن للسلطان نصب أربعة قضاة من المذاهب الأربعة ففعل، وأقر القاضي تاج الدين أبن بنت الأغر في قضاء الشافعية، وولي الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن صالح السبكي قضاء المالكية، وقاضي بدر الدين بن سلمان قضاء الحنفية، والقاضي شمس الدين محمد ابن الشيخ عماد الدين إبراهيم القدسي قضاء الحنابلة، وجعل لهم الأربعة أن يولوا النواب بأعمال الديار المصرية، وافرد القاضي تاج الدين بالنظر في مال الأيتام والأوقاف، وكتب له بذلك تقليدٌ من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أوله: الحمد لله مجرد سيف الحق على من اعتدى. ثم كل من الأربعة له التحدث فيما يقتضيه مذهبه بالقاهرة والفسطاط، ونصب النواب، وإجلاس الشهود، ويستقل الشافعي منهم بتولية النواب بنواحي الوجهين القبلي والبحري لا يشاركه فيه غيره.
الوظيفة الثانية قضاء العسكر. وهي وظيفة جليلة قديمة كانت في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان قاضي عسكره بهاء الدين وموضوعها أن صاحبها يحضر بدار العدل مع القضاة المتقدم ذكرهم، ويسافر مع السلطان إذا سافر؛ وهم ثلاثة نفر: شافعي، وحنفي، ومالكي، وليس للحنابلة منهم حظ، وجلوسهم في دار العدل دون القضاة الأربعة المتقدمي الذكر على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة إفتاء دار العدل. وموضوعها على نحو ما تقدم في قضاء العسكر، وبها أربعة نفر، من كل مذهب واحد، وجلوسهم دون قضاة العسكر على ما يأتي ذكره.
الوظيفة الرابعة وكالة بيت المال. وهي وظيفة عظيمة الشأن رفيعة القدرة، وموضوعها التحدث فيما يتعلق بمبيعات بيت المال ومشترياته من أراض وآدر وغير ذلك، والمعاقدة على ذلك وما يجري هذا المجرى. قال في مسالك الأبصار: ولا يليها إلا أهل العلم والدين، ومجلسه بدار العدل: تارة يكون دون المحتسب، وتارة فوقه بحسب رفعة قدر كل منهما في نفسه.
الوظيفة الخامسة الحسبة. وهي وظيفة جليلة رفيعة الشأن، وموضوعها التحدث عن الأمر والنهي، والتحدث على المعايش والصنائع، والأخذ على يد الخارج عن طريق الصلاح من معيشته وصناعته. وبالحضرة السلطانية محتسبان: أحدهما بالقاهرة، وهو أعظمهما قدرةً وأرفعها شأناً؛ وله التصرف بالحكم والتولية بالوجه البحري بكماله خلا الإسكندرية، فإن لها محتسباً يخصها، والثاني بالفسطاط ومرتبته منحطة عن الأول؛ وله التحدث والتولية بالوجه القبلي بكماله، والذي يجلس منهما بدار العدل في أيام المواكب محتسب القاهرة فقط دون محتسب مصر؛ ومحل جلوسه دون وكيل بيت المال، وربما جلس أعلى منه إذا كان أرفع منه بعلم أو نحوه.
الصنف الثاني من أرباب الوظائف الدينية من لا مجلس له بالحضرة السلطانية وهذه الوظيفة لا حصر لعددها على التفصيل، ولا سبيل إلى استيفاء ذكره على تفاوت المراتب فوجب الاقتصار على ذكر المهم منها.
ثم هذه الوظائف منها ما هو مختص بشخص واحد، ومنها ما هو عامٌ في أشخاص.
فأما التي هي مختصة بشخص واحد.
فمنها نقابة الأشراف وهي وظيفة شريفة، ومرتبة نفيسة؛ موضوعها التحدث على ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المراد بالأشراف في الفحص عن أنسابهم والتحدث في أقاربهم والأخذ على يد المتعدي منهم ونحو ذلك، وكان يعبر عنها في زمن الخلفاء المتقدمين بنقابة الطالبين.
ومنها مشيخة الشيوخ والمراد بها مشيخة الخانقاه التي أنشأها الملك الناصر بن قلاوون بسرياقوس من ضواحي القاهرة.
أما مشيخة الخانقاه الصلاحية بالقاهرة المعروفة بسعيد السعداء، فإنها وإن قدم زمنها وعظم قدرها دون تلك في المشيخة.
ومنها نظر الأحباس المبرورة وهي وظيفة عالية المقدار، وموضوعها أن صاحبها يتحدث في رزق الجوامع والمساجد والربط والزوايا والمدارس من الأرضين المفردة لذلك من نواحي الديار المصرية خاصةً، وما هو من ذلك على سبيل البر والصدقة لأناس معينين، وأصل هذه الوظيفة أن الليث بن سعد رحمه الله اشترى أراضي من بيت المال في نواحٍ من البلدان وحبسها على وجوه البر، وهي المسماة بديوان الأحباس بوجوه العين، ثم أضيف إلى ذلك الرباع والدور المعروفة بالفسطاط وغيره، ثم أضيف إليها رزق الخطابات، ثم كثرت الرزق من الأرضين في الدولة الظاهرية بيبرس بواسطة الصاحب بهاء الدين بن حنا وأخذت في الزيادة إلى زماننا؛ وهي تارة يتحدث فيها السلطان بنفسه، وتارة النائب، وفي غالب الوقع يتحدث فيها الدوادار الكبير على ما استقر عليه الحال آخراً.
ومنها نظر البيمارستان والمراد البيمارستان المنصوري الذي أنشأه المنصور قلاوون بين القصرين، وكان داراً لست الملك أخت الحاكم الفاطمي فغير معامله وزاد فيه، وليس له نظير في الدنيا في بره ومعروفه؛ وهي من اجل الوظائف وأعلاها؛ وعادة النظر فيه من أصحاب السيوف لأكبر الأمراء بالديار المصرية.
وأما التي هي عامة في أشخاص.
فمنها الخطابة وهي في الحقيقة أجل وظائف أعلاها رتبة، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها بنفسه، ثم فعلها الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، وهي على كثرة الجوامع بالديار المصرية بحيث أنها لا تحصى كثرةً لا يتعلق منها بولاية السلطان إلا القليل النادر: كجامع القلعة إلا إذا كان مفرداًً عن القضاء ونحو ذلك مما لا ناظر له خاص.
ومنها التداريس وهي على اختلاف أنواعها من الفقه والحديث والتفسير والنحو واللغة وغير ذلك لا يولي السلطان فيها إلا فيما يعظم خطره ويرتفع شأنه مما لا ناظر له خاص كالمدرسة الصلاحية بجوار تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه، والزاوية الصلاحية بالجامع العتيق بالفسطاط، وهي المعروفة بالخشابية، والمدرسة المنصورية بالبيمارستان المنصوري المتقدم ذكره بين القصرين؛ ودرس الجامع الطولوني ونحو ذلك.